دليل أطباء طرطوس

الثلاثاء، 25 مايو 2021

أرملة..

 

أرملة..


 

لم تستطع تجاهل الأمر, لليلة الثالثة تحس بقلقه. يتقلب في السرير مراراً.

لكنه لا يعطيها وجهه ابداً, يغادر السرير على عجلة. لا يأبه لكونها نائمة أم مستيقظة.

ينام على الأريكة فبالة التلفاز لا ينطفئ.

في الصباح يرتدي ثيابه بسرعة ويمضي. يمر النهار, يأكلها القلق , ثم يمضغها على مهل في اجترار لا ينتهي إلا بعودته ليلاً ليبدل ثيابه ويستلقي في السرير دون أن يكلمها كلمة واحدة ودون أن ينظر في وجه الأطفال النائمين كأنما ينكر وجودهم في حياته.

حالما ترفع حافة الغطاء لتندس قربه يبدأ بالتململ, يتقلب, ثم يغادر الفراش..

في اليوم الأول لم تكترث كثيراً, أما في الثاني فانتبهت, لكن الليلة الثالثة مرت بطول سنة وعرض جحيم.

مالذي يحدث؟!!

كامرأة عاقلة تحب وزوجها وأطفالها الثلاثة, وبيتها الصغير المبني بحب وتضحية في زمن صعب. بدأت تراجع نفسها, في البداية بسرعة, ثم ببطء شديد. قلبت الأيام, ثم بدأت تقلب الساعات فالدقائق. استعادت حياتها معه صفحة صفحة علها تعثر على خطأ ارتكبته دون قصد, أو كلمة نطقتها بلا وعي فأزعجته وبدلت تصرفاته.

قبل سنوات جمعهما القدر في بيت أصدقاء مشتركين, أعجبه ذكاؤها ورقتها, وأحبت فيه اتزانه وحبه للعمل والعائلة.

في المرة الثانية التقته في بيتها, وبعد شهر تزوجا.

سبع سنوات مرت دون مشاكل فعلية, هي لا تهتم بالتفاهات الصغيرة, لذا لم تتشكل يوماً نواة خلاف حقيقي بينهما. وهو لم يشعر معها بافتقاد شئ.

حين عجزت عن إيجاد سبب منطقي لتحولاته, ومع انتهاء اليوم السابع لتبدلاته الغريبة, شعر عقلها بالشلل, وتفجرت عواطف الأنثى فيها لتحولها إلى امرأة تشبه كل النساء ذات لحظة. لابد أن امرأة أخرى قد اخترقت أمنها وسلبتها اطمئنانها.

لم تعد لتقليب صفحاتها, مزقت الكتاب والتفتت إليه . رشفت ذاكرتها أدق تفاصيله لأيام مرت, لأسابيع, لأشهر, لسنوات.

شمت رائحةً غريبة, حديثة, عمرها بضعة أيام, لم تكن رائحة أنثى, كانت شيئاً آخر لم تستطع تحديده.

فاجأها عتاب الأم , لم يزعجها, أحزانها, بل آلمها أن تتذكر أن لها أختين أرملتين لم تجف دموعهما بعد. بضعة أشهر مرت كئيبة سوداء, تكاد قتامتها تغطي الكون.

رغم ذلك. تجد نفسها ببساطة, بعيدة عن كل ذلك. ناسية كل الآهات المكتومة والمعلنة في الصدور تائهة عن أعين صغيرة حائرة لأبناء الأختين تعجز عن استيعاب حقيقة الفقد وتشعل الجمر القابع تحت الرماد كلما خبا بسؤال عن الأب الذي يعود لن يعود. حزمت حقيبة وحيدة وضعت ما قد يلزمها هي والأولاد ليومين أملت ألا يكتملا .

خطت له على ورقة كلمات تعطيه فرصة التفكير في حياتهما معاً. لم تتصور أن في قلبها قهراً لهذا القدر لم يبح لأحد بما يحدث لم تخبر أمها أو أخواتها أن زلزالاً يوشك أن يعصف ببيتها ويدمر حياتها .

صدمها الإحساس بأنها واحدة منهن أرملة أخرى تتجرع سم الفراق المر .

يوماً بعد يوم كان الحزن ينقشع في البيوت التي زارها الموت قبل أشهر وتبدأ الحياة بنثر ملامحها في الوجوه الذابلة وحدة وفراغاً.

 لم يكن الحزن ينقشع كان يتجمع ليصب في داخلها ينسحب ببطء من الآخرين لينسكب بسرعة في روحها .

صممت على الخلاص ستعود إليه لوحدها بحبها شوقها حزنها وخيبتها .

 لن تسأله عن شئ ستدعوه لبدأ صفحة جديدة لشراء كتاب جديد وفتحه من أول صفحة. لن تعاتبه لأنها تنتظره منذ شهرين دون أن يسال عنها أو عن أولاده.

وجدته في البيت لم تستطع أن تلقي بنفسها بين ذراعيه وان تمنت ذلك.

 كان في عينيه ووجهه ونبرات صوته شئ لا يشبه غير الصقيع حين جلست أمامه بانكسار طفلة مذنبة بدأ يسير أمامها جيئةً وذهاباً على قلبها كان يخطو خمس خطوات استدار ست خطوات استدار ثلاث خطوات , استدار خطوتان واجهها .

 لم ترفع وجهها إليه بقي رأسها منكساً وعيناها تعانقان الأرض تحطم شئ في صدرها فلم تسرع لتلملم القطع المكسورة أو توقف الدماء النازفة همست بلا صوت ( لماذا؟!!) وصلها صوته بلا هوية لا أريد أن أموت لم تعرف ماذا يفترض بها أن تفهم ما قصده كيف يموت لماذا ما شأنها لم تفهم !!..

رفعت رأسها ونظرت إليه بوجه ضائع وعينين متناثرتين صفعه الحب المذبوح بالوجع الذي لاح في نظراتها فتدافعت كلماته كرصاصات طائشة: لم اعد أحتمل نظرات الشفقة وكلمات الأسف على شبابي والحسرة على عمري وأبنائي أمك صارت أرملة قبل أن تبلغ الثلاثين عمتك قبل الزفاف بساعات أختاك في سنة واحدة أرملتان كبراهما لم تبلغ الخامسة والعشرين كيف أستطيع البقاء مع امرأة يموت الرجال في عائلتها باكراً وتظل النساء باكيات حيناً ثم ناسيات لا أريد الموت لا أريد ...

أرادت أن تصرخ أن تركض تهرب منه تشبثت قدماها بالأرض خيل إليها للحظة أنها تحولت إلى حجر أخرس.. كان يصرخ رافضا فكرة الموت ويلوح بيديه بعصبية كأنما ليطرد الكلمات التي ينطقها أو ليزيح الأفكار التي في رأسه مخافة أن تتجسد موتا ولأول مرة استطاعت أن تميز الرائحة التي تفوح منه رائحة الخوف لم تعد تسمعه كانت تراه تشمه تلتقط تشنجه وانفعاله وخوفه.

فجأة صمت شخصت عيناه إليها للحظة ثم هوى أرضاً شقت صمتها بصرخة كسرت جمودها الحجري وارتمت عليه احتضنته نادته غسلت وجهه بالدمع ولم يجب .

 ركضت تتطلب العون جاء الناس من أين يأتي كل هؤلاء عند المصائب :؟!!

جاء الطبيب عاينه غطاه هز رأسه معلناً بتلقائية اعتياد سكتة قلبية مات !  

 

                                                                                فيفيان محمود عباس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أطباء ـ أشعة